“ خاتمة فصول الدهشة “
- 1 -
وقعّت "مصر" اتفاقية "كامب ديفيد"! وكان قد سبق للناس أن جلسوا إلى أجهزتهم بذهول، وهم يتابعون زيارة رئيسها للقدس، فانقسموا حول تلك الزيارة، واشتطّوا في أحكامهم بين من رأى فيها الخيانة بعينها، ومن رأى فيها جرأة ووضوحاً، على مبدأ أن "ليس بالإمكان أفضل ممّا كان"! ومن قبل كانوا قد اختلفوا حول تفسير دوافعه في طرد الخبراء السوفييت، فضحكتَ من تناقض اللوحة، مؤكّداً أن ّشرّ البلية ما يضحك!
وقلتَ : هي الأمور سواء!
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تفلت فيها هذه الجملة منك في الآونة الأخيرة، فهل كانت تعبّر عن قناعتك في المسألة، أم تسليمك بها!؟
كان السياق الذي أخذ اليومي الرتيب يحفر فيه الأعصاب يشير إلى الشقّ الثاني من التساؤل الممرض، بحيث ما عاد أيّ شيء يهزكّ من الأعماق! حتّى تعيين "إبراهيم" بصفة نائب لرئيس المكتب التنفيذيّ لم يحرّك فيك تلك المشاعر التي كانت تشتعل بالفرح من أجل الأصدقاء، ربما لأنك أخذتَ تتفكّر في الأمور بصورة مغايرة، إذْ هاهو صديق آخر ينهض بينك و بينه حاجز، بل حـاجزان! الأول ابتدأ بتخرّجـه مـن كليّة الحقوق، فيما انتهيتَ
ـ أنت ـ إلى الأزقة، والثاني راح ينهض مع هذا التعيين الذي رفعه إلى علييّن، ولكي تتحاشى جوّاً شبيهاً بذلك الجّو الذي خيّم على حفلة "خليل" هنّأته في مكتبه! ذلك أنك أخذتَ تشعر بالضيق من تلك الأجواء مُؤخّراً، ربّما لأنك بدأت تعي بأنكم أولاد اليوم ، أنّ الماضي لن يعود، وأنّكم لم تعودوا أولئك الأنداد الذين جمعتهم مقاعد الدراسة ذات يوم!طبعاً أنت لم تلحظ في سلوكهما شيئاً مباشراً يومىء إلى ما ذهبتَ إليه في وهمك، لكن الواقع يفرض سياقه ومفرداته بعيداً عن لغة العواطف، لذلك فلقد آثرتَ الابتعاد قليلاً، لكنهما افتقداك لبعض الوقت، فلمّا تأخّرتَ فاجآك بزيارة خاطفة!
ـ أهلاً …أهلاً، تفضّلا!
بارداً كان الجّو في الخارج، وكانت النجوم ترتعد في سماء ليلكية!
ـ افتقدناك مُؤخّراً!
وتداريتَ بالترحيب في محاولة لإخفاء تحرّجك:
ـ أهلاً بكما، تفضّلا بالجلوس!
كيف الحال!؟
ـ لا بأس، الحمد لله!
وراء تلك السيماء ثمة سرّ!
وعلى عادته حينما يكون لديه ما يقوله، تنحنح "إبراهيم":
ـ أحمد، نحن أصدقاء أليس كذلك!؟
وباغتك السؤال المدهش الذي لم يكن يخلو من بعض فجاجة!
ـ طبعاً نحن أصدقاء، ولكن ما الأمر!؟
وبدا حائراً، فأكمل "خليل" ما كان قد بدأه:
ـ لا شيء ولكن حالك في الفترة الأخيرة لا يعجبنا! أحمد أنت لم تعد تأبه لشيء، لقد أدرتَ ظهرك للحياة، وهذا لا يجوز!
ـ و ماذا تريدانني أن أفعل!؟
ـ نريدك أن تفتح عينيك جيداً، لقد تغيّرت الأمـور مــن حولك، بيد أنك
لا تريد أن ترى، ولا أن تتحرّك من مكانك!
وكان كلامهما غريباً، فلم تلتقط ما يرميان إليه، وتساءلتَ بحيرة:
ـ ولكن ماذا كان بإمكاني أن أفعل!؟
ـ كنتَ تستطيع الكثير، ولكنّك أدرتَ ظهرك لكلّ شيء، وانزويتَ في دارك كراهب! حسناً، هل لك أن تفسّر لنا لماذا تحصّل الآخرون على شقق يسكنونها، بينما لم تتدبر أنت شيئاً!؟ أنتَ لستَ مُوظفاً جديداً، وعدد أفراد أسرتك ليس صغيراً، فما الذي كان ينقصك سوى القليل من الحركة والرضا!؟ وفي وقت من الأوقات كنتَ قد جمعتَ من حولك الكثير من العمال، فما الذي غيّبك عن النقابة مُؤخراً!؟ ثمّ لماذا تتوهّم بأن العمل فيها أجدى، وأنت بعيد عن مركز القرار!؟ طيّب، هل كان ثمة ما يمنعك من أن تكون واحداً من أعضاء اللجنة النقابية مثلاً!؟
ـ ولكنكما تعرفان بأنني مختلف معهم في كلّ شيء!؟
ـ لا شيء يدوم يا أحمد، ثمّ أن خلافك معهم لم يكن خلافاً شخصياً، وكانت تسويته ممكنة، وعندها كنتَ ستشارك في اتخّاذ القرارات بما يخدم مصلحة العمّال بصورة أفضل! بقي أن نسألك إنْ كنتَ قد فكرتَ في أولادك يوماً في هذه الحمأة!؟ انظر إليهم لترَ أيّ أسمال بالية تغطّي أبدانهم، وتذكّر بأنك كنتَ تستطيع أن تقدّم لهم الكثير، لكنك لم تفعل!
الآن كانا قد غمزا لك من القناة الموجعة، وأظهرا ضآلتك، فرفعتَ بصرك نحو أولادك، وفاجأك مرآهم حقاً، حتى لكأنك تراهم للمرة الأولى! ففي تلك الزاوية من الغرفة كانت العيون الغائرة قد استكانت بلا نأمة أو رفّة، ومن الأحداق التي يغطيّها القذى راح حرمان طويل يفصح عن نفسه، فانداح على الوجنات الناتئة، والشعور المُشعثة، والقامات الضامرة! وعند الركب والمرافق والمؤخرات كان ثمة ثقوب في ثيابهم، وكان ثمة رقع غير مُتقنة ترتقّها بلا جدوى، ذلك أن القماش نفسه كان قد بلي، وحالت ألوانه، وما عاد يصلح لشيء! وفي تلك الليلة أخذ النوم ينأى! كانت تلك الثقوب قد انقلبت إلى جراح راعفة ومؤلمة، وراحت العيون المنكسرة تحفر في جدار كرامة مهيضة هدّها الفقر والزمن، فأجلتَ ناظريك في أرجاء المكان! كانت الغرفة الوحيدة ـ التي التصقت بجلودكم مع نزولكم بهذه البلدة ـ قد انحشرت بالأجساد المنطوية على نفسها، حتى كادت أن تغصّ بهم، ولم يكن ثمة أثاث بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان عبارة عن سقط متاع رثّ وكئيب!
فهل كان الفقر مُقدّراً عليكم أباً عن جدّ!؟ أم أنه كان وشماً لا يفارق جلودكم حتى الممات!؟
ثمّ ماذا عن الغد!؟ ماذا أعددتَّ لهؤلاء الصغار كي تقيهم عاديات الأيام!؟ وأيّ مستقبل ينتظرهم!؟ هو ذا "خالد" يطأ عتبة الشباب على خجل وانطواء على الذات، فماذا بعد!؟ يا الله! ما أشدّ ما كسره الفقر، حتى بدا أشبه ما يكون بشبح، ثم ماذا يريد ذانك الرجلان أيضاً!؟ أما يكفيك ما أنت فيه!؟
وبإلحاح راحت جملٌ بعينها تزنّ في الأذن، بحيث أنشأت البقع المعتمة في الصورة تنتقل شيئاً فشيئاً إلى عالم الوضوح والعري ال#، فبدت الأسئلة كسراج ينير مشهداً غابت تفاصيله في دهاليز ذاكرة ملتاثة، وأخذتَ تستعيد البشرة الناعمة للرجلين الذين غادراك قبل برهة، والثياب الأنيقة التي كانا يرتديانها! وكان ثمة ما يُشكل في اللوحة، فإذا كان "خليل" قد ورث عن أبيه شيئاً من الأرض الزراعية، إلا أن "إبراهيم" لا يختلف عنك في شيء، فمن أين له كل ذاك البذخ!؟ وبالتدريج أخذ كل شيء يتضّح! إنّهما يلمحّان إلى شكل من أشكال التحالف، لأن وجودك في مفصل هامّ، سيمنحهما المزيد من القوة، وإذا كانا اليوم قادرَيْن على الوصول إلى ما يريدان، فإن ذلك الوصول سيكلّفهما مقابلاً سيكونان في حلّ منه إن كنتَ أنت في ذلك المكان!
كانت البلدة منقسمة على نفسها ما تزال، بحكم تركيبها السكّاني، وكان ذلك الانغلاق يشم الأحياء بطابعه، بيد أنّ الأحياء الحديثة ذات الأبنية الطابقية أرغمت الناس على الاختلاط في حدود ضيّقة، وفي كلّ الأحوال فإن القول بمجتمع مدنيّ كان ما يزال حلماً بعيد المنال! وربّما لأنك لم تكن تريد لصداقتك معهما أن تنتهي على مذبح المصلحة الخاصة بتلك الصورة، تمنيّتَ ألاّ تكون مصيباً في ما ذهبتْ إليه المخيلّة! أمّا كم كانت الساعة حين تمكّن النوم ـ أخيراً ـ من التغلّب على الهواجس المتطايرة في فضاء الغرفة، فأنت لم تعد تتذكّر جيداً، المهمّ أنك نمتَ بضع ساعات، لتفيق في صباح اليوم التالي متكسّر الأطراف، والصداع ما يزال مطبقاً على الجبهة ومؤخّرة الرأس! كانت الأسئلة ما تزال تنتظر، فقررّتَ ألاّ تذهب إلى العمل، وسحبتَ اللحاف إلى قمّة رأسك!